السبت، 26 فبراير 2011

مريضٌ يسمعُ الصمت !!



        - نصحوني بزيارتك، ولست مقتنعاً بهذه الزيارة بيد أن خوفي من أن تصدق ظنونهم وأُصاب بالجنون دفعني إليك.
        - لماذا يعتقدون أنك ستصاب الجنون؟ 
        لأنني مختلف.
           - دعنا نتفق على قاعدة أن ليس كلّ مختلف مجنون، المبدعون والناجحون مختلفون، ثم ماهو اختلافك عنهم؟
        - انني أسمع الصمت.
           - هل لك أن توضّح لي كيف تسمع الصمت بموقف؟
           - حسناً..
       ذات مساء، كنت أمشي بجوار متجر صغير، لمحت كهلاً يجلس على عتبة المتجر وقد رفع ثوبه إلى ركبتيه وغطى سيقانه سروال طويل " سروال السنّة"، مسدلاً شماغه الأحمر على رأسه، في يده اليمنى علبة مياه غازية، وفي يده اليسرى سيجارة، يرتشف قليلاً من العلبة تارة، ويدّخن السيجارة تارة أخرى، تتم عملية التبادل بين السجارة والمشروب بهدوء تام وبحرفية، عيناه محدّقتين في بقعة صغيرة بين قدميه، وقفت بعيداً عن هذا الكهل وأخذت أتأمل حاله وملامحه، انه رثّ الهيئة، ربما يعاني من فقر مدقع وله ذريّة ضعفاء يتحمل مشقة الإنفاق عليهم، يجلس هنا ليرتاح قليلاً ويشرد بفكره عن المسؤولية العظمى التي أثقلت كاهله، ألا يعلم هذا العجوز أنه بالتدخين قد يقضي على حياته؟ من سيعول أسرته المعدمة من بعده؟ هل سيتشرد أبنائه؟ كيف سيعيشون دونه ويبقون على رمق الحياة في أيامهم؟ يا الهي الطف بهم!
عيناه مكسوتّان بالحزن والكسرّة، هي كذلك لأنه يلقي بنورهما بين نعاله المتهالك، إنه لم يعد يرى الوجود جميلاً، كلّ ما حوله يصيبه بالخيبة والإزدراء، ينظر إلى الأرض وكأنه يناديها بصوت مزلزل أن ابلعيني، هل يفكر في الانتحار؟ أرجوك لا، قد عانيت في دنياك كثيراً احفظ عليك آخرتك، من الذي كسر عينيه وأرداهما الفجعة؟ هل تنكّر له أهله عندما كان في أمسّ الحاجة اليهم؟ أو ربما خانه صديق؟ ما أمرّ خيانة الصديق، وكأنها مطرقة تنهال طرقاً على الظهر حتى يتكّسر العمود الفقري ويتحول إلى اجزاء صغيرة تجري في الدم،عندها يصاب الإنسان بالشلل التام، فلا يتحرك ولا يسمع ولا يرى ولا يتحدث ولا يشعر سوى بدبيب ألم الخيانة في أنحاء جسده!
قد بلغ هذا الرجل عتياً، وقد كتبت الشيخوخة طلاسمها ورموزها –التي لا يفهمها إلا هو عندما ينظرة في المرآة- على وجنتيه وجبينه، واجتثت عروقه من باطن كفيّه إلى سطحهما لتجعلها أكثر ملامسة للموت، ربما أحد ابنائه مصاب بمرض خطير، وهو يجلس هنا يُدبّر أمر جمع المال الذي لا يملكه لعلاج ابنه، يا الله .. كم هذا الشعور مؤلم وقاسي، لا شئ يكسر الرجل كإحساسه بالعجز؟ تباً لمن لم ينصفوه وجعلوا منه فقيراً عاجزاً !
أو ربما هو مريض، مرضٌ كائد سيودي بحياته، ويحمل همّ عائلته من بعده، أو يحمل همّ الآخرة وأهوالها، يا الهي ارحم هذا الرجل، يا الهي امسح بيمينك الطاهره على قلبه واشفه من بؤسه، تسقط دمعاتي بالتوازي مع خطواتي المتجاوزة لمقعد الرجل.
لذلك أنا مختلف، سمعت كلّ ما يجول ويدور في ذهنه وخاطره دون أن ينبس ببنت شفه، وتعاطفت معه وتقاسمت معه عنائه دون أن يدري، ولكنني أدري وإنني على يقين من أن جزء من همه تلاشي في صدره كدخان سجائره المتلاشي في الهواء عندما سمعت صمته وصافحت قلبه بقلبي وحمل همّي همّه، هل بذلك اصبح مجنون يا دكتور؟ قلّي بربك هل أنا مجنون؟ 

  - عزيزي .. حالتك بعيدة تماماً عن الجنون، ليس كلّ مرض نفسي يؤدي إلى الجنون، وليس كلّ مريض نفسيّ مجنون.
   - تقصد بأنني مريض؟
  نعم
        وما هو مرضي؟
        - أنت مريضٌ بالإنسانية، لا تخف، مثل هذه الأمراض احتمالية الشفاء منها كبيرة جداً.
        وهل الانسانية أصبحت مرض؟ وإذا كانت الإنسانية مرض فما هي الصحّة؟
           - الصحة توازن بين إنسانية الإنسان وبين اللا انسانية ( الغرائزية الحيوانية الذاتية )، بمعنى أن الفرد السويّ في عصرنا الحالي لا يطيل التأمل في حال هذا الرجل كما فعلت، لأن غريزة الحفاظ على السعادة الذاتية متوازنة مع انسانيته التي لا يتطلب استدعائها في مثل هذا الموقف، الفرد السويّ يمشي في يده هاتف محمول أو مشغل موسيقى أو شراب أو طعام، يُبعد الإنشغال بما لديه أي احتمال للتفكير بالحالة المؤلمة للرجل القابع على عتبة المتجر وبالتالي عدم استضافة الألم والهمّ في النفس كما تفعل أنت، أما ان وجد الرجل وقد مدّت يده للعوز فإنه يمشي إليه ويلقي في يده بكل عطف بعض من المال ثم يكمل انشغاله بما لديه وبهذه الحالة يصل الفرد إلى التوازن المنشود بين الغريزة والإنسانية.
دوائك بسيط، هو أن تنشغل بنفسك أكثر، لا تخالط عامة الناس وفقرائهم لمدّة شهر واحرص على انغماسك في الطبقة البرجوازية، تابع القنوات الفضائية لا سيّما المهتمة بالأغاني المصورة ثلاث ساعات يومياً، اقتص من وقتك عشرة دقائق يومياً، خصصها للتخيل، تخيل أنك نجم هوليودي تلبس أفخم الملابس ومحاط بالحلوات، ينظرون الناس اليك باعجاب ولهفة واحرص أن لا تنظر إليهم، دللّها .. اهتم بها .. عش لها .. من هي؟ نفسك أنت، سأكتب لك بعض المثبطات الانسانية، اتبع وصفتي العلاجية وستتحسن يا .. عفوا نسيت اسمك .. ذكّرني به؟ 
  - اسمي انسان .. وصفي انسان .. مرضي انسان .. 
أدار انسان ظهره إلى الطبيب وأخذ يردد عباراته السابقة بنرات تهكمية ممزوجة بألم.. اسمي انسان .. وصفي انسان .. مرضي انسان .. انسانٌ .. انسانٌ .. انسانٌ .. 

الثلاثاء، 15 فبراير 2011

أكبر من أن يصفه عنوان ..

أكتب اليوم عن رجل متفرد، متميّز .. أكبر من أن يصفه عنوان، وأعمق من أن تحتويه الكلمات ..
إن أردت معلماً حذقاً.. وجدته استاذاً بارعاً 
أو أردت شيخاً جليلاً.. وجدته عالماً فاضلاً 
أو أردت صديقاً قريباً .. وجدته مخلصاً وفياً 
أو أردت كاتباً صادقاً.. وجدته صريحاً نزيهاً 
تجد فيه حنوا الجدّ وحكمته، وصرامة الأب وحرصه، وقرب الأخ وأنسه. 


إنه  الفاضل الكريم الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله عليه..   



الشيخ عليّ نعمة من نعم الله على أهل الدنيا، أعطاهم ايّاها وبارك فيها واكرمهم بعدم زوالها، لقد رحل عنّا بجسده 
وعاش بيننا بفكره وعلمه وكلماته الخالدة. 
يحبه الكبار ممن عاصروا زمانه، كما يحبه الشباب ممن لا يتذكرون له سوى برنامجه الجميل " على مائدة الإفطار"، ويحبه أيضاً من لم يقرؤا له سوى كتاب أو مقالة ولا يعرفون عنه الكثير.  


بدأت رحلتي الممتعة في مكامن فكره المتراص كعقد منظوم في كتبه منذ خمس سنوات تقريباً، في زيارة لاحدى صديقاتي دعتني  للإطلاع على مكتبتها، وجدت في المكتبة كتاب " من حديث النفس " للشيخ على الطنطاوي، اعجبني اسم الكتاب وموضوعاته، اعارتني صديقتي الكتاب لقرائته، وكانت المرة الأولى على الإطلاق التي أقرأ فيها للشيخ علي والتي انهي فيها قراءة كتاب كامل في اسبوع واحد أو ربما أقل! 
شعرت وكأن سحر تملّكني، إذ ذهبت إلى المكتبة واخذت كتاب " من حديث النفس " ليظل في مكتبتي واشتريت معه مجموعة أخرى من كتب الشيخ عليّ منها: رجال من التاريخ - قصص من التاريخ - مواقف اجتماعية - فصول في الثقافة والأدب .. وكتب غيرها لنفس الكاتب، ثم انهلت عليها قراءة، لم تطل مدّة قراءة الكتاب الواحد لأكثر من أسبوع تقريباً.  
بعض كتبه التي اقتنيها

في كلّ شئ ينتمي إليّ وضعت له كتاب، في حقيبتي، بجوار وسادتي، أسفل سريري، في مقعدي بصالة الجلوس، على حاسوبي الشخصي.. في كل مكان .. حتى السيارة لم تسلم من كتبه!
 كنت أتوق للقراءة إلى شخص يجمع بين الإلمام بأصول الدين و قراءة الواقع قراءة منصفة والإدلاء برأي يجمع بينهما بأسلوب سهل وسلس، ووجدت ذلك في مقالات الشيخ علي. 
الشيخ علي رحمه الله من أكثر أهل الدعوة والثقافة و العلم تأثيراً، مرّ بالعديد من الخبرات والتجارب والمناصب، درس الأدب والفقه واشتغل في التدريس وفي المحاكم، كان مختلطاً بالناس عالماً باحوالهم وهمومهم، كان يعيش بينهم لذلك ابتعد عن التنظير وتبعاته. 
أكثر ما يعجبني في هذا الشيخ الكريم أنه يحترم عقل القارئ، مهما كانت أهمية القضية التي يتناولها أو حجمها، احترام عقل القارئ من اولوياته، يبدأ حديثه أو مقالته بموقف أو قصه أو رأي، ثم يحلل ما طرحه في بادئ الأمر، وأخيراً يعطي رأيه بناءً على أسباب واضحه ومنطقية تحترم عقل القارئ وتدع له الحرية في الاقتناع برأيه أو رفضه بعد فهم الحجّة.   


انتهج نهج العظماء في كتاباته وأقواله، حيث استخدم البسيط من الأقوال والأساليب ليُمثل بها أفكاراً هامّة وقضايا كبيرة، ليفهمه الصغير والكبير والعالم والجاهل، ورغم بساطة اسلوبه إلا أنه كان على قدر كبير من البلاغة والجمال.    


اهتم كثيراً بالأمة الإسلامية وأحوالها بل كانت هي أكبر همومه، أراد للشباب المسلم أن يحملوا همّ نهضتها على عاتقهم 
وأن يتحلّوا بالوسطية، فدائرة الحلال أوسع بكثير من دائرة الحرام الضيقة. 


لذلك أحببت الشيخ علي رحمه الله، أحببت مقالاته وفكره وحديثه، وجدت فيه الصدق ويكفي بالصدق صفة لمحبته، قرأت 80% من اجمالي مؤلفاته وأتوق إلى المزيد وإعادة قرائه ما سبق قرائته.
 غالباً ما أنصح الجميع بالقراءة له، لا مشكلة لديّ في اعارة كتبه أو شرائها واهداها طالما أن ذلك سيساعد في الإستفادة 
من جهوده العظيمة وآرائه القيّمة. 


أتمنى لكم قراءة ممتعة ومفيدة في أكثر المؤلفات جمالاً ومتعة وفائدة 
مؤلفات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى :)

الأربعاء، 2 فبراير 2011

رغم ذلك لا تقلقوا .. أنا بخير




 مصري يتحدث في ظل الأوضاع الراهنة يقول:

يسألوني عن أموري .. هل أنا بخير؟
نعم بخير .. لا شئ يدعوا للقلق
غير أن شمعتي التي اوقدتها 
وحميتها من الهواء والرياح العاتية
سلّمتها لأخي كي اغفوا قليلاً  
أخي .. من دمي
اخي .. ابن أبي
تخيلوا .. 
أطفأها في سويداء قلبي 
ثم رحل !
كسر ظهري 
أخي .. سرق "ضَيّي"
ورحل!
رغم ذلك .. لا تقلقوا .. أنا بخير

صديقي
على مقاعد الدراسة اجتمعنا
وعلى اللوحة السوداء رسمنا
آمالنا .. أحلامنا الوردية
طموحنا بحياة عزيزة هنية
تخيلوا .. 
يوم أن لامست احلامنا الحقيقة
وقفتُ مع صديقي وبيده حقيبة
اخرَج منها سكيناً
فقأ عيني وحلمي
ثم اقسم يميناً
تالله لست أنا .. تالله لست أنا
آه يا صديقي
ليتك فقئت عيني الأخرى  
وجعلتني أعمى
لأمسك بيدك من جديد
وأهمس في اذنك من قريب
كان لي صديق .. كان لي صديق !
قولّي بربّك .. كيف لمقلة واحد أن تبكيك
قولّي يا صديق !
رغم ذلك .. لا تقلقوا .. أنا بخير 

أمي .. حبيبتي 
وطني .. أنا
لا ذنب لي أنني أحبها
وأنها تحبني
قتلوني ولم يأتوا بدمٍ اِفك   
اتوا بدمي
نثروه على قدميها
والله سيورّد حرية وحبّ
قدموا لها قميصي وقد قُدّ
قالوا لها خائن عميل
فوضويٌ مُنتهِك
قالت لهم والله  لم يخون
ابني وأعلم من يكون
مصريٌّ أبيٌّ 
كلما مات يقوم  

لذلك لا تقلقوا .. أنا بخير .. أنا بخير  



دعواتنا وابتهالاتنا ليحفظ الله مصر وأهلها من كلّ شر ..