- نصحوني بزيارتك، ولست مقتنعاً بهذه الزيارة بيد أن خوفي من أن تصدق ظنونهم وأُصاب بالجنون دفعني إليك.
- لماذا يعتقدون أنك ستصاب الجنون؟
- لأنني مختلف.
- دعنا نتفق على قاعدة أن ليس كلّ مختلف مجنون، المبدعون والناجحون مختلفون، ثم ماهو اختلافك عنهم؟
- انني أسمع الصمت.
- هل لك أن توضّح لي كيف تسمع الصمت بموقف؟
- حسناً..
ذات مساء، كنت أمشي بجوار متجر صغير، لمحت كهلاً يجلس على عتبة المتجر وقد رفع ثوبه إلى ركبتيه وغطى سيقانه سروال طويل " سروال السنّة"، مسدلاً شماغه الأحمر على رأسه، في يده اليمنى علبة مياه غازية، وفي يده اليسرى سيجارة، يرتشف قليلاً من العلبة تارة، ويدّخن السيجارة تارة أخرى، تتم عملية التبادل بين السجارة والمشروب بهدوء تام وبحرفية، عيناه محدّقتين في بقعة صغيرة بين قدميه، وقفت بعيداً عن هذا الكهل وأخذت أتأمل حاله وملامحه، انه رثّ الهيئة، ربما يعاني من فقر مدقع وله ذريّة ضعفاء يتحمل مشقة الإنفاق عليهم، يجلس هنا ليرتاح قليلاً ويشرد بفكره عن المسؤولية العظمى التي أثقلت كاهله، ألا يعلم هذا العجوز أنه بالتدخين قد يقضي على حياته؟ من سيعول أسرته المعدمة من بعده؟ هل سيتشرد أبنائه؟ كيف سيعيشون دونه ويبقون على رمق الحياة في أيامهم؟ يا الهي الطف بهم!
عيناه مكسوتّان بالحزن والكسرّة، هي كذلك لأنه يلقي بنورهما بين نعاله المتهالك، إنه لم يعد يرى الوجود جميلاً، كلّ ما حوله يصيبه بالخيبة والإزدراء، ينظر إلى الأرض وكأنه يناديها بصوت مزلزل أن ابلعيني، هل يفكر في الانتحار؟ أرجوك لا، قد عانيت في دنياك كثيراً احفظ عليك آخرتك، من الذي كسر عينيه وأرداهما الفجعة؟ هل تنكّر له أهله عندما كان في أمسّ الحاجة اليهم؟ أو ربما خانه صديق؟ ما أمرّ خيانة الصديق، وكأنها مطرقة تنهال طرقاً على الظهر حتى يتكّسر العمود الفقري ويتحول إلى اجزاء صغيرة تجري في الدم،عندها يصاب الإنسان بالشلل التام، فلا يتحرك ولا يسمع ولا يرى ولا يتحدث ولا يشعر سوى بدبيب ألم الخيانة في أنحاء جسده!
قد بلغ هذا الرجل عتياً، وقد كتبت الشيخوخة طلاسمها ورموزها –التي لا يفهمها إلا هو عندما ينظرة في المرآة- على وجنتيه وجبينه، واجتثت عروقه من باطن كفيّه إلى سطحهما لتجعلها أكثر ملامسة للموت، ربما أحد ابنائه مصاب بمرض خطير، وهو يجلس هنا يُدبّر أمر جمع المال الذي لا يملكه لعلاج ابنه، يا الله .. كم هذا الشعور مؤلم وقاسي، لا شئ يكسر الرجل كإحساسه بالعجز؟ تباً لمن لم ينصفوه وجعلوا منه فقيراً عاجزاً !
أو ربما هو مريض، مرضٌ كائد سيودي بحياته، ويحمل همّ عائلته من بعده، أو يحمل همّ الآخرة وأهوالها، يا الهي ارحم هذا الرجل، يا الهي امسح بيمينك الطاهره على قلبه واشفه من بؤسه، تسقط دمعاتي بالتوازي مع خطواتي المتجاوزة لمقعد الرجل.
لذلك أنا مختلف، سمعت كلّ ما يجول ويدور في ذهنه وخاطره دون أن ينبس ببنت شفه، وتعاطفت معه وتقاسمت معه عنائه دون أن يدري، ولكنني أدري وإنني على يقين من أن جزء من همه تلاشي في صدره كدخان سجائره المتلاشي في الهواء عندما سمعت صمته وصافحت قلبه بقلبي وحمل همّي همّه، هل بذلك اصبح مجنون يا دكتور؟ قلّي بربك هل أنا مجنون؟
- عزيزي .. حالتك بعيدة تماماً عن الجنون، ليس كلّ مرض نفسي يؤدي إلى الجنون، وليس كلّ مريض نفسيّ مجنون.
- تقصد بأنني مريض؟
- نعم
- وما هو مرضي؟
- أنت مريضٌ بالإنسانية، لا تخف، مثل هذه الأمراض احتمالية الشفاء منها كبيرة جداً.
- وهل الانسانية أصبحت مرض؟ وإذا كانت الإنسانية مرض فما هي الصحّة؟
- الصحة توازن بين إنسانية الإنسان وبين اللا انسانية ( الغرائزية الحيوانية الذاتية )، بمعنى أن الفرد السويّ في عصرنا الحالي لا يطيل التأمل في حال هذا الرجل كما فعلت، لأن غريزة الحفاظ على السعادة الذاتية متوازنة مع انسانيته التي لا يتطلب استدعائها في مثل هذا الموقف، الفرد السويّ يمشي في يده هاتف محمول أو مشغل موسيقى أو شراب أو طعام، يُبعد الإنشغال بما لديه أي احتمال للتفكير بالحالة المؤلمة للرجل القابع على عتبة المتجر وبالتالي عدم استضافة الألم والهمّ في النفس كما تفعل أنت، أما ان وجد الرجل وقد مدّت يده للعوز فإنه يمشي إليه ويلقي في يده بكل عطف بعض من المال ثم يكمل انشغاله بما لديه وبهذه الحالة يصل الفرد إلى التوازن المنشود بين الغريزة والإنسانية.
دوائك بسيط، هو أن تنشغل بنفسك أكثر، لا تخالط عامة الناس وفقرائهم لمدّة شهر واحرص على انغماسك في الطبقة البرجوازية، تابع القنوات الفضائية لا سيّما المهتمة بالأغاني المصورة ثلاث ساعات يومياً، اقتص من وقتك عشرة دقائق يومياً، خصصها للتخيل، تخيل أنك نجم هوليودي تلبس أفخم الملابس ومحاط بالحلوات، ينظرون الناس اليك باعجاب ولهفة واحرص أن لا تنظر إليهم، دللّها .. اهتم بها .. عش لها .. من هي؟ نفسك أنت، سأكتب لك بعض المثبطات الانسانية، اتبع وصفتي العلاجية وستتحسن يا .. عفوا نسيت اسمك .. ذكّرني به؟
- اسمي انسان .. وصفي انسان .. مرضي انسان ..
أدار انسان ظهره إلى الطبيب وأخذ يردد عباراته السابقة بنرات تهكمية ممزوجة بألم.. اسمي انسان .. وصفي انسان .. مرضي انسان .. انسانٌ .. انسانٌ .. انسانٌ ..